بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 22 ديسمبر 2011

في عدل بكرو: القاعدة تسقط قناع النظام

استطاعت مجموعة مسلحة يعتقد أنها تابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أن تنفذ يوم أمس عملية اختطاف ناجحة راح ضحيتها دركي موريتاني برتبة جندي، لتزيل بذلك قناعا طالما تقنع به النظام الموريتاني وهو يبعث برسائله "القوية" للسياسيين في الداخل وبعض المناوئين له في الخارج، حيال قدرته على ضبط البلد وصد أي هجوم يستهدف أمن وأمان مواطنيه.

وهي العملية التي أظهرت تحولا نوعيا في حرب القاعدة ضد النظام، وهي تتحول من خط خطف الرعايا الأجانب وقتال الجيش في الصحاري والغابات، إلى خطف عناصر أمنية وأسرها، في عملية نوعية، ودال خطير يحمل أكثر من مدلول. 

وبالنظر إلى طبيعة العملية ونوعيتها فإن عملية "عدول بكرو" نسفت كل الأكاذيب التي اعتمدها النظام لتلميع صورته والثناء على سياسة أمنية بدت فاشلة – على الأقل – في عدل بكرو، كما أزالت الغشاوة عن كل القناعات التي حاول النظام تشكيلها خلال الفترة الأخيرة من خلال الرسائل التي بعث بها في عيد الجيش الوطني، ومن قبله الحرب الاستباقية التي نفذها ضد معاقل التنظيم على الأراضي المالية.

وهي الرسائل التي لم يكتف فيها النظام، بإظهار جاهزية جيشه العظيم من خلال العرض العسكري الأضخم من نوعه، والذي نظم بمناسبة عيد الجيش الوطني واستعرض فيه أخر مقتنياته من آليات وأسلحة خفيفة وثقيلة، بل زاد ذلك بإذكاء حقد القاعدة عليه – عن وعير أو غيره - من خلال دعوته – على لسان وزير دفاعه: أحمد ولد الدي ولد محمد الراظي - الدول الأعضاء في مبادرة 5+5 إلى العمل على تجفيف منابع الإرهاب، وتضييق الخناق على الذين يمارسون الاختطاف لجني الأموال، وذلك بالامتناع عن دفع الفدية لهم.

وأردف الوزير "إن موريتانيا قامت بالعديد من التدابير والإجراءات الأمنية للتصدي للتحديات المختلفة، وعلى هذا الأساس، وضمن إستراتيجية أمنية متكاملة، تم تشكيل وحدات عسكرية خاصة وتجهيزها بشكل يناسب المتطلبات الدفاعية الجديدةـ وأن سياسة الدولة "الأمنية" آتت أكلها لما كان لها من أثر إيجابي وجلي في دفع تلك المخاطر عن أرضنا".

فأرادت القاعدة أن يكون الرد على هذه التصريحات العقيمة سريعا وعنيفا حتى لا يظن ظان بصدقها، بل – ربما – لتثبت للدول نفسها وغيرها، أن الأرض التي يقول النظام بقدرته على حمايتها من "مخاطر التنظيم" ليست هي الأرض التي يتحدث عنها وزير دفاعه، فلربما يكون الضمير في "أرضنا" عائد إلى أرض أخرى مختلفة، غير تلك التي عناها في كلامه.

هنا أرادت القاعدة بعد تسعة أيام فقط من تصريحات وزير الدفاع الموريتاني ومغازلته لدول 5+5 أن تثبت للجميع أنما يتحدث عنه الوزير وما تبجح به النظام – عموما – من خطة أمنية محكمة يعززها اهتمام لا محدود بسد الثغرات وبتشكيل الوحدات الخاصة وتجهيزها بكل متطلبات الدفاع يبقى لا معنى له أمام هجمات التنظيم، وهو يستهدف رجل أمن في عقر داره وفي إحدى ثكناته "المحصنة" و"المجهزة" بأعتى السلاح، فينجح بسهولة تامة في خطفه أمام الملأ، قبل أن يتغنى بنصره في شوارع المدينة ثم يغادر منتصرا تاركا الجميع من جيش ورجال أمن ومسؤولين رسميين ومواطنين عاديين، وهم في حيرة من أمرهم. 

هنا سقط قناع الزيف، وتبدى أن الاستعداد حديث التنسيق مع الدول المجاورة وتبادل المعلومات الاستخباراتية معها لتحقيق الأهداف الأمنية المشتركة، وكذلك الحديث عن سياسة أمنية مزيفة، لا وجود لها في أرض الواقع، ومن تنميق وكذب على العامة والخاصة، كلها أحديث معادة لا تأثير لها على تنظيم القاعدة ولا أثر في حماية البلد من مخاطر تنظيم شرير يعرف جيدا كيف ومتى يسدد ضرباته القاتلة.

هنا يحق لنا أن نساءل النظام، عن السياسة الأمنية التي تحدث عنها فأطال الحديث؟ عن تأمين الحدود، وتدريب الجنود وتجهيز الجيش بأحدث سلاح موجود؟ عن الخطة التي سيعتمدها – ليس لحماية البلد من خطر القاعدة فقط – وإنما لتخليص الدركي الأسير عند التنظيم، والذي كتب له أن يروح ضحية الفشل والارتجال؟ وهل ضمن هذه الخطة دفع دية لتنظيم القاعدة لتخليص الدركي الجندي من قبضة التنظيم؟

الخميس، 8 ديسمبر 2011

من السنغال: مشاهدات وطرائف(ح2)


الشيخ داداه ولد آباه
Cheikhdadah85@gmail.com

عرفت السنغال الإسلام في القرن الحادي عشر الميلادي عن طريق التجار الشناقطة وغيرهم، وشيئا فشيئا بدأت الدولة المسلمة تحتضن الدعوة الإسلامية واللغة العربية متحولة بذلك إلى قاطرة مهمة دفعت بمسيرة المد الإسلامي والتعريب في غرب إفريقيا.

وبعد ذلك بقرون قليلة وصلها المد الصوفي، قادما من الشرق عبر موريتانيا، فانتشرت فيها الحركات الصوفية، قبل أن يتوزع زعامات هذه الحركات أعلام سنغاليون كبار شهد لهم بالعلم والتقى والزهد والورع، كما شهد لهم بالتفاني في خدمة الإسلام واللغة العربية، باعتبارها لغة القرءان، ومفتاح فهم الدين الإسلامي.

هذه الزعامات الروحية - أعني رموز هذه الحركات ومنظريها - اعتقد فيها السنغاليون إلى حد أن اعتبروها الجسر الوحيد الذي سيمكنهم من الوصول إلى جنة عرضها السماوات والأرض، لكن هذه الصلة لابد وأن تحاط بقداسة خاصة تمكنها من لعب دورها في التكوين على برامج "تأشيرة العبور" إلى حيث الهدف والغاية، وللتمكين لهذه الدور، وفداء لهذه الزعامات تأتي الهدايا والصدقات كمستحقات مقدسة هي ثمن "الوصول"، وأجرها على الله، فانبرى لجمعها عديدون منهم طبقة "باي فالات"، ومخترعو قصة "الحبل" الآتي ذكرها.

قصة الحبل..
مباشرة عند خروجنا من السنغال باتجاه داكار، وعند أول حي ريفي يقع على نفس الطريق، واجهتنا مجموعة تقارب العشرة، بين ذكور وإناث وقد اعترضت طريقنا، وهي تمد حبلا طويلا على عرض الطريق، من على ارتفاع يصل إلى مترين تقريبا، لإيهامنا بضرورة التوقف.

أول ما شاهدتهم، حسبتهم متظاهرين يحاولون قطع الطريق احتجاجا على إقدام سلطات بلدهم على قطع الماء أو الكهرباء عن حيهم، فهددهم العطش، وهدد معهم مزارعهم ومواشيهم فقرروا الخروج، أو هم يطالبون بتوفير هاذين العنصرين الحيويين، أصلا، بعد أن عانوا العطش والظلام لعقود متتالية، والسبب في تسرب هذا الحسبان عند الوهلة الأولى إلى ذهني، هو كثرة ما سمعت عن مثل ذلك في بلدي العزيز، لكني سرعان ما ثبت لي غير ذلك.

فعندما اقتربنا من الجماعة المذكورة وتهيأ السائق للتوقف، أنزل أفرادها الحبل إلى الأسفل، ثم سحبوه بعد أن تأكدوا من توقف السيارة، التي أحاطوا بها من كل جانب وهم يرددون عبارات "ولوفية" تبين لنا من خلالها أنهم يطلبون هدية الشيخ أحمدو بمبه، "سرينج بمبا" أو "سرينج طوبا" والأخيرة تعني "شيخ طوبا"، فما كان مني إلا أن تعجبت من الأمر ومن الطريقة التي اعتمدوها لتحصيل صدقة أو هدية الشيخ، فقلت في نفسي "سبحان الله.. كل هذا من أجل تحصيل هدية الشيخ أحمدو بمبه، ألا يكفي التجول في الطرقات العامة في المدن الكبيرة والصغيرة، كما يفعل "باي فالات" و"طاليب"...إلخ؟!، أم أن ثمن "الوصول" يحتاج أكثر من ذلك بكثير!".

أمن الطرق..
لم يستحدث السنغاليون جهازا خاصا بأمن الطرق كما حدث معنا في موريتانيا، ولم يستغلوا كذبة "أمن الطرق" لهدر المال العام وتحويله إلى جيوب خاصة، وإنما اكتفوا بتطوير بنيتهم الطرقية وبتزيينها بكل اللافتات واللوحات المرشدة، مع صرامة في إلزام السائقين باحترام قوانين السير، وهو ما تعوده السائقون هناك، فأصبح احترام هذه القوانين هو الأصل، والقاعدة، وغيره ذلك مروق وشذوذ.

فبالرغم من أن العاصمة السنغالية داكار تعاني من أزمة مرورية خانقة استعصت على الحل- حتى الآن على الأقل – إلا أن ذلك لم يشغل بالي لحظة، بالقدر الذي يحصل معي في شوارع نواكشوط، وذلك لروعة النظام المحكم الذي تسير وفقه حركة المرور هناك، فاحترام السائقين لقوانين السير ووقوفهم عند إرشادات وتوجيهات اللافتات المرورية، مع ما يوازي ذلك من صرامة في فرض هذا الواقع من قبل الشرطة المرورية التي لا يصرفها عن ذلك "درهم ولا دينار"، كلها أمور كانت محل إعجابي وتقديري، الشيء الذي صرفني في كثير من الأوقات عن الاشتغال بالتفكير في الاختناقات المرورية في عاصمة توصف بأنها الأكثر اكتظاظا بالسكان.

البنية الطرقية..
تتمتع السنغال بشبكة طرق لا بأس بها، إذا ما قورنت بغيرها في بلدان مجاورة، تتوزعها - حسب بعض المصادر الشفوية والمكتوبة- ثلاثة طرق رئيسية (خطوط طويلة) تصب كلها في طريق واحد - على مسافات مختلفة - قبل المدخل الوحيد العاصمة السنغالية داكار، ويبلغ طول هذه الشبكة الطرقية 14000 كلم، ثلثها فقط تم تعبيده.

ويشكل الاكتظاظ السكاني الكبير الذي تشهده العاصمة السنغالية داكار ــ إضافة إلى احتوائها على مدخل وحيد يقصده كل زائري المدينة من جميع الولايات الداخلية، لكونها جزيرة صغيرة يحفها الماء من كل جانب ــ مصدر إزعاج حقيقي للسكان والزائرين هناك، لما يتسبب فيه ذلك من اختناقات مرورية شديدة تسعى الحكومة السنغالية جاهدة إلى إيجاد حلول جذرية لها.

وذلك من خلال الزيادة الملحوظة، ليس في الشوارع المعبدة فحسب، وإنما في الجسور والطرق السريعة التي لا يزال بعضها قيد الإنشاء، حتى وقت مقامي هناك، وكان آخر طريق يتم تشغيله هو الطريق السريع غير المجاني الذي أطلق قبل أسبوع من تاريخ زيارتي للمدينة، و يدفع مقابل المرور على هذا الطريق السريع مبلغ مالي زهيد يصل إلى 400 فرنك إفريقي بالنسبة للعربات الصغيرة، ويزيد عند الكبيرة.

وهو الطريق الذي سرت عليه مع رفقتي عند دخولنا متجهين إلى مركز المدينة، وذلك لتفادي الاختناق المروري بها، رغم أننا دخلناها بعد التاسعة ليلا، وهو ما يشي بأن الاختناق المروري بها يتواصل إلى ساعات متأخرة من الليل.

كما أني لاحظت جدة تغلب على الشوارع هناك وحتى على بعض الطرق الطويلة نسبيا، فيما يشير إلى دوام الصيانة فيها، وهو شيء مفقود تماما في موريتانيا، حيث إنه منذ أن تم تشييد شارع جمال عبد الناصر، وشارع "العيادة المجمعة" ، وطرق أخرى رئيسية في العاصمة، لم نشاهد أي نوع من أعمال الصيانة لهذه الطرق التي تحولت في بعضها إلى تجمعات للأوساخ والأتربة ومياه الصرف الصحي - كما نشهده غالبا بالقرب من العيادة المجمعة وسط العاصمة نواكشوط - بل و تحولها إلى مكان مناسب تحتله الباعة الصغار وترابط في جنباته عرباتهم التي يستخدمونها لتسويق بضائعهم، فضلا عن كونها طريقا سالكا للعربات التي تجرها الحمير، والتي غالبا ما تذكي جذوة الاختناقات المرورية التي تبلغ ذروتها هذه الأيام في ظل ما نشهده من إصلاحات طرقية "متقطعة" في العاصمة نواكشوط.

الخميس، 1 ديسمبر 2011

من السنغال.. مشاهدات وطرائف(ح1)


الشيخ داداه ولد آباه
cheikhdadah85@gmail.com

تعتبر الكتابة عن البلدان والأشخاص من الأمور الصعبة والمحرجة في آن، بالنسبة لي، مقارنة ما باقي أنماط الكتابة الأخرى، وذلك لما تتطلبه من فنيات وأدوات خاصة، لا أجد نفسي متقنا لها، إلا أنني لا أجد - هذه المرة - بدا من ركوب موجها، باعتبار أهميتها في نقل وحفظ ما سأودعه هذه السطور من مشاهدات رائعة وذكريات جميلة، بل ومواقف طريفة أيضا اقتنصتها خلال رحلة فريدة قادتني إلى جارتنا السنغال. خاصة عاصمتها الموسومة بداكار، وكان ذلك خلال إجازتي السنوية، في أكتوبر الماضي.

الرحلة بدأتها من كرمسين باتجاه جاما، حيث عبرت عبر معبرها المعروف ب"سد جاما" باتجاه مدينة سينلوي لأواصل بعد ذلك الرحلة نحو داكار، عبر طريق معبد هو أول ما سأبدأ به هذه السطور.

حول الطريق..
يعتبر الطريق الرابط بين مدينة سينلوي والعاصمة السنغالية داكار أهم مكون من مكونات شبكة الطرق السنغالية والتي سنفصل فيها في موضع لاحق، وقد وجدت في هذا الطريق – رغم طول مسافته – متعة السفر وبهارة جمال الطبيعة، وذلك لما تجده فيه من انسيابية يعز نظيرها، تنمحي معها تماما تأثيرات التشققات والحفر الطرقية كالتي أجدها في طريق (نواكشوط – روصو).

حفر وتشققات طالما عكرت صفو أسفاري من ولاية انحدر منها وتشكل فيها وعيي الأول أعني اترارزه، إلى عاصمة بلدي الحبيب "نواكشوط" هذا فضلا عن ما تسببت وتتسبب فيه الآن هذه الحفر وتلك التشققات من حوادث مؤلمة راح ضحيتها مئات المواطنين، ومثلهم من الأجانب الذين يسلكونه في سفر داخل البلد أو خارجه نحو أحد البلدان المجاورة.
ولا يمكن أن أنسى هنا وأنا أسرد مميزات ذلك الطريق الهام، تلك الحدائق الغناء والمزارع الخضراء التي لا تفتأ تكحل مقلتيك من حين لآخر في بلد وجدت إعلان جفاف أراضيه من المفارقات العجيبة التي لم أجد لها من تفسير سوى أنها "حاجة في نفس يعقوب".

وهي الحدائق والمزارع التي منحته منظرا جماليا وصبغة سياحية تبعث على الراحة والاطمئنان، وليس ذلك فقط، بل أكسبته أيضا أهمية خاصة في كونه يلعب دورا محوريا في نهضة البلد وتنميته الاقتصادية، على الأقل، من حيث تسهيل حركة الموارد الزراعية ومشتقاتها في بلد تعتبر الزراعة من أهم موارده الاقتصادية.

قوم عمليون..
يجد هذا الوصف مصداقه الحقيقي في الشعب السنغالي الشقيق، خاصة إذا ما راقبت يومياته، وحركة أفراده، ذكورا كانوا أم إناثا، شبابا كانوا أم شيبا، فالكل قد لاتعدم له موطأ قدم في الإنتاج الوطني العام.

فالمساحات الزراعية الشاسعة، والأراضي المستصلحة الواسعة، هي من ينبؤك بروعة هذا المجتمع العملي، مجتمع اختاره الله خليفة في هذا القطر الضيق، من أرضه الواسعة، والذي لا تزيد مساحته على 196.190كم2 لحكمة بالغة هو أعلم بها، وقد أثبت هذا الشعب بما وسمته به من "عملية" فريدة تجد تفسيرها في بصماته الغائرة التي تركها على هذه الأرض المعطاءة، أنه وحده أهل لهذه الأرض، ووحده من يستطيع أن يحسن استغلالها ويستخرج كوامن درها ومرجانها.

غاص في عمق النهر الذي يحف أرضه من كل حدب وصوب فاستخرج كوامنه، سمكا ناعما أحسن إنضاجه في قدوره الرائعة وبه اشتهر في قطره، خاصة إذا أضيف إلى مادة الأرز، فيشكلا معا طبقا غذائيا لا يمل تناوله، عرف محليا بـ"جيبو أندر"، أو "جيبو جن" كما هي تسميته العامة، والأوسع انتشارا.

وليس ذلك فقط، بل أحسن كذلك استغلال أرضه المعطاءة بما أتيح له من وسائل مهما كانت بدائية، فبذر فيها من كل ثمرة أطيبها طعما، وأدومها نفعا، وأجزلها بركة، نخلا باسقا وشجرا مثمرا، يشكلان مع غيرهما من مزروعاته أعظم استثمار له.