بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 22 ديسمبر 2010

حول أخلاقيات الصحافة

الشيخ داداه ولد آباه

إن سمو مهنة الصحافة، وارتفاع مبناها ومعناها يرتبط أيما ارتباط بمدى سماكة "المسحة الأخلاقية" التي تزين شكلها ومضمونها.

والصحفي الذي يضع نفسه موضع المحكوم بقانون "الخلق الحسن" أثناء ممارسته لمهنته، يستطيع أن يقنع العقل ويرضي القلب بما ينسجه من معالجات إعلامية تأخذ شكلها الجمالي العام من قدرته البيانية، وحسه المهني والأخلاقي.

وإذا كانت الأخلاق هي "مجموعة من العادات والتقاليد، تحيا بها الأمم كما يحيا الجسم بأجهزته وغدده" طبقا لتعريف الشيخ محمد الغزالي لها، فإن أخلاقيات الصحافة هي مجموعة من الأخلاقيات والمبادئ  والمحددات،  تحيا بها الصحافة كما يحيا الجسم بأجهزته وغدده، وذلك لأن صحافة من دون أخلاق صحافة فاقدة لروحها الحقيقية وجوهرها المكنون.

ومن المعلوم بأن مصدر الإلزام في أخلاقيات الصحافة وفي غيرها من القوانين الأخلاقية الأخرى هو مراقبة الله جل وعلا، ثم الضمير المجرد والإحساس بالواجب، وكذلك القوانين الملزمة.

من هذه المنطلقات، وعلى هامش الملتقى الدولي الأول لنقابة الصحفيين الموريتانيين حول "أخلاقيات المهنة الصحفية" والذي شارك فيه بالإضافة إلى عشرات الصحفيين الموريتانيين، خبراء ومتخصصين من دول خارجية عدة، ساهموا إلى حد كبير في بلورة الأفكار المطروحة وتحويلها إلى مجموعة من الأخلاقيات من شأنها أن تسموا بمهنة الصحافة وأن تنزلها منزلتها اللائقة بها، لتبقى الكرة الآن في ملعب الصحفي نفسه.

أردت هنا أن لا أفوت الفرصة على نفسي دون أن أسجل بعض الخواطر التي تردني من حين لآخر حيال الموضوع ذاته، بالرغم من أنني لست صحفيا بمعنى التخصص، ولا حتى بمعنى التجربة العميقة، حيث أن تجربتي مازالت في طورها الابتدائي وقد لا تسعفني جدا في تقديم تصور شافي ووافي عن موضوع أخلاقيات الصحافة، وهو الشيء الذي جعلني اكتفي بتسجيل بعض الخواطر علها أن تثري حديثا أو تثير استشكالا أو تجيب على آخر، وذلك انطلاقا من شتات من المعارف كنت قد جمعتها من مصادر مختلفة، وتجربة ميدانية لا تزال قصيرة الأمد.

وأبدأ لأقول بأن الصحفي لا بد وأن يكون عنده رصيدا أخلاقيا فطريا حتى يستطيع أن يتأقلم مع أي أخلاقيات وضعية يراد لها أن تقود تجربته الإعلامية، أو أن تقومها كلما جنح أو مال به هواه إلى النقائص، وذلك من منطلق أن "من تطبع بغير طبعه نزعته العادة حتى ترده إلى طبعه" فـ"الطبع أمالك" كما يقال.

والتجارب الإعلامية الموريتانية كغيرها من التجارب في مختلف دول العالم العربي والغربي تحتاج إلى مسحة أخلاقية سميكة جنبا إلى جنب مع القوانين الوضعية الأخرى الناظمة للعمل الصحفي، لكي تضمن لنفسها القبول ومن ثم البقاء، وبالتالي على الصحفي أن يكون ذا خلق رفيع عموما وأن يتخلق بأخلاقيات الصحافة بشكل خاص حتى يستطيع أن يضيف "مسحة أخلاقية" - هي مصدر مصداقية مؤسسته الإعلامية ومكمن احترام الآخرين لشخصه الكريم، ومهنته الشريفة – إلى معالجاته الصحفية.

وتتأكد أهمية التحلي بأخلاقيات الصحافة كلما اتسعت المساحة المخصصة لحرية الرأي والتعبير، حيث ينبغي للصحفي أن يستغل المساحة المخصصة له فيما ينفع الناس من منطلق أنه حر ومسؤول في آن واحد.

والحرية ليست مطلقة بل لها حدودها التي تمتد لتنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، كما أن المسؤولية هي الزاد الحقيقي للصحفي باعتباره مسؤولا أمام الله عز وجل وأمام المجتمع، ويجب عليه أن يعامل نفسه انطلاقا من ذلك، بل ويتعامل مع المجتمع أيضا من نفس المنطلق، بحيث يكون جانب المسؤولية حاضرا لديه في كل الظروف المكانية والزمانية وأن تظهر بصمات الصحفي المسؤول في كل ما يقدمه للمجتمع من مواد إعلامية مهما كان نوعها.

ومهما كان للمجتمع الحق في الإعلام، وكانت الصحافة مدينة بالقيام بهذا الدور، فإن ذلك يستلزم أولا وأخيرا مراعاة المنظومة القيمية لدى للمجتمع المستهدف.

من جانب آخر فإنه من المعلوم بالضرورة أن أي إطار تشريعي ناظم للحقل الصحفي يظل قاصرا عن القيام بدوره مالم يعزز بإطار خلقي يكون بمثابة الحارس المكين الذي يحرس الصحفي من الوقوع في الأخطاء والزلات العظيمة.

وأخيرا أقول أنه إذا كانت عقوبة الذنب في الدنيا لا تقتصر على مرتكبيه فقط، بل أحيانا تعم لشمل آخرين معه، وذلك حين يتسبب ارتكاب الذنب في حبس القطر عن مجتمع معين بمجرد أن شخصا واحدا ارتكب ذنبا، فإن غياب الخلق لدى الصحفي أيضا قد لا تقتصر عقوبته على الصحفي اللاأخلاقي فقط، بل قد تعم العقوبة لتشمل جميع المنتسبين لها، وذلك حين تتسبب زلات وأخطاء صحفية خارجة عن إطار قوانين وأخلاقيات المهنة في كشف رداء الاحترام عنها، وبالتالي حرمان كل المنتسبين لها من مجرد التمتع بالامتيازات المعنوية للمهنة، كأن يبقى مجرد الانتماء للصحافة عار لا يصقله ماء البحر.

الثلاثاء، 7 ديسمبر 2010

"ويكيليكس" ضوء في آخر النفق..

الشيخ داداه ولد آباه
cheikhdadah85@gmail.com

دول عظمى تنهار لحظة بعد لحظة أمام وثائق ويكيليكس وعلى رأسهم أمريكا، ملوك ورؤساء ومسؤولون كبار في معظم دول العالم، من التي طالتها عدوى تسريب الوثائق "السرية"، أصيبوا بالقلق والإزعاج إزاء الوثائق المذكورة، وآخرون لا تزال فرائصهم ترتعد خوفا من أن تطالهم يد "ويكيلكس"، دبلوماسية دولية محرجة وربما بروز خارطة جديدة في العلاقات الدولية، مخبرون وخبراء ومختصون في حيرة من أمرهم، الكل غارق في التفسير و التحليل لكن دون جدوى، أما الرجل الأسترالي جوليان أسانغ، فيواصل تسريباته دون توقف عبر موقعه "ويكيلكس".
الوثائق التي ينشرها الموقع الأكثر شهرة وإثارة، كانت إلى عهد قريب سرية للغاية، وتتعلق في مجملها بقضايا الفساد، والجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية، ومؤامرات الملوك والرؤساء ضد شعوبهم المغلوبة، و أخرى تكشف ضراوة صراع الهيمنة والمصالح بين الدول، وخبث مطامعها ومطامحها، لكنها الآن - على الأقل - في متناول الجميع ويمكن للكل أن يضطلع عليها وقتما أراد ذلك، فقط – أيها المواطن المسحوق - زر الموقع وحمل ما شئت من الوثائق.

وبغض النظر عن موضوع التشكيك في مدى صدقية هذه الوثائق من عدمها، وما أثارته من أسئلة، منذ ظهورها وحتى الآن، سنقدم هنا قراءة ثم رأيا حول هذه الوثائق المثيرة في هذه الأيام من خلال الآتي:

• قد يلمس القارئ المتفحص في هذه الوثائق إمكانية أن يكون الموقع المذكور يستغل من طرف جهات غربية تريد خلق "فتنة" بين دول إسلامية، في طريقها لهزيمة الأمة الإسلامية، وفي إطار نظرية المؤامرة، فنشر الموقع المذكور لوثائق سرية تتضمن مطالبة ملك السعودية للأميركيين بقطع "رأس الأفعى" قاصدا دولة إيران، قد تعتبر دليلا صريحا وواضحا على ذلك المسعى الخبيث – أعني ذر بذور الفتنة والانشقاق من طرف الدول الغربية – وهو ما لا يستغرب من هذه الدول، كما أن أمر استغلال الدول الغربية وتحديدا دولتا الكيان الصهيوني وحليفتها أمريكا، لموقع "ويكيليكس" قد يعزز منه كون الأخير لم ينشر حتى الآن أية معلومات تتعلق بالدولة العبرية، وهذا ما قد يسيء إلى سمعة الموقع، على الأقل في العالم العربي والإسلامي، أما أن يكون "ويكيليكس" يسعى من خلال نشره للوثائق المذكورة إلى إماطة اللثام عن كل مستور في كل دول العالم، وأن يبرهن على استقلاليته وبراءته من التبعية لأي دولة، غربية كانت أم شرقية، وخصوصا بعد أن هز أركان الدولة الغربية العظمى، بنشره لوثائق سرية عن الإدارة الأمريكية الشيء الذي قد يقوض استقرارها ولو إلى حين، فهذا ما قد يشفع للموقع المذكور في أن يصل إلى مبتغاه، محققا هدفه الأسمى الذي هو "تحرير الصحافة والكشف عن التجاوزات، وإنقاذ الوثائق التي تصنع التاريخ" كما عبر عن ذلك مؤسس الموقع في تصريح أدلى به لبعض وسائل الإعلام العالمية.

• من جهة أخرى يمكن القول بأن السيد جوليان أسانغ مؤسس الموقع المذكور إنما عمد إلى نشر هذه الوثائق بدافع حب المال والثروة ليس إلا، بحيث أن الشهرة التي اكتسبها بعد نشره لهذه الوثائق قد تجعل من موقعه "قبلة" للعديد من الشركات العملاقة، من التي تتسابق دوما إلى المواقع الأكثر شهرة وقراءة، من أجل الترويج لخدماتها، هذا إن لم يتحول الموقع نفسه إلى مشروع تجاري عملاق يحصد أرباحا خيالية، كالتي تجنيها مواقع أخرى من شهرتها العالمية مثل "غوغل" و"اليوتيوب" و"الفايس بوك" وغيرهما، وهو ما قد يقف، حال ثبوته، عائقا أمام تحقيق الموقع لأي هدف من أهدافه بل سترمي به الشعوب الطامحة إلى التغيير والعيش في غد أفضل في سلة المهملات وتحرمه من شرف التربع على عرش الصحافة الاستقصائية التي سيكون رائدها بلا منازع إذا ما ظل جنديا مجهولا يدافع ببسالة عن الحرية وحقوق الإنسان، ويسعى في سبيل ذلك إلى فضح الظلمة ونعت المجرمين وكشف فضائحهم المستورة حتى يتميز من بكى ممن تباكى.

• سهولة الوصول إلى هذه الوثائق أيضا، بحيث أن الراغب في تسريب أي نوع من المعلومات التي تتضمنها هذه الوثائق المسربة ما عليه إلا أن يزور الموقع الإلكتروني لـ"ويكيليكس" لتحميل ما شاء الله من الوثائق، ولتصبح متاحة أمام العامة في غضون دقائق، كل هذا وغيره، قد تتلاشى أمامه التفسيرات القائلة بلهث جوليان أسانغ وفريقه المتخصص وراء الربح المادي، بل قد يعزز من قدرتهم على خلق منعطف جديد وخلاق في المنحنى البياني للصحافة الاستقصائية في العالم.

فالقراءات إذن مختلفة والتفسيرات متعددة بتعدد الوثائق والمجالات التي تطرقت إليها، وكذلك البلدان التي طالتها هذه التسريبات، بل وأيضا عوامل، خطورتها والفترة الزمنية التي نشرت فيها، لكن في الوقت ذاته يمكني هنا القول بأن الوثائق السرية لـ"ويكيليكس" ستخفف – في أدنى حالاتها - من هيمنة عالمية وهمية كانت الولايات - إلى وقت قريب - تتبجح بها، لكن التطور التقني وقدرة "جوليان أسانغ" على امتطاء صهوتها أظهرت ببساطة هشاشة أمريكا وضعف مقوماتها بل ووهمية بسط سيطرتها على العالم، وهذا هو أكبر انجاز حققته هذه الوثائق.

كما يمكن القول بأن "ويكيليكس" بنشره لهذه الوثائق يقدم – بقصد أو غير قصد – خدمة غير مسبوقة للمواطن العربي والغربي، من حيث إطلاعه على ما يدور في كواليس ملوكه ورؤسائه ومسؤوليه، الشيء الذي كسر وهم احتكار المعلومات من طرف السلطة، أي أن مسعى تحرير المعلومات لصالح المجتمع بات يلوح في الأفق، وبتحقيق هذا المسعى، ستميل العلاقة بين السلطة والمجتمع إلى التبدل بما فيه صالح المجتمع، وهو ما قد يحمل رياح التغيير أيضا.

وأيضا تخدم هذه الوثائق كل الساعين إلى تجفيف منابع والفساد وسوء التسيير، بحيث تفضحهم أمام الأشهاد وتعبد طريقهم نحو المحاكم، وتنزع الثقة المفترضة منهم، هذا فضلا عما تقدمه للساعين إلى تحجيم الانتهاكات الخطيرة في حق الإنسان المكرم، وإعادة النظر في الوضعية العالمية لحقوق الإنسان.

وختاما، فـ"ويكيليكس" يقدم الآن خدمات من الطراز الأول للشعوب المغلوبة، ويظهر وكأنه الضوء الذي يضيء من آخر النفق، لكنه في الحقيقة يجب أن لا يشغل هذه الشعوب - حتى لا أقول الملوك أو الرؤساء أو الأمراء أو المسؤولين- عن قضياهم المصيرية وأولوياتهم في الدفع بها نحو الأمام.