بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 25 يوليو 2011

الإعلام إذ يزيل الاستبداد.. (تونس نموذجا) (الشيخ داداه ولد آباه)


ميز الأنظمة الشمولية عن تلك الدكتاتورية كون الأولى استفادت – عكس الأخيرة - من التطور التكنولوجي المعاصر، وخاصة المتعلق منه بالتطور الحاصل في وسائل الاتصال والإعلام المعاصر، حيث ركبت الأنظمة المذكورة ساعتها موجته، مكممة الأفواه ومتحكمة في آراء وأفكار الشعوب في سبيل تطويعها لخدمة أجندتها التسلطية المخزية ومن ثم التحكم في مصير شعوبها المغلوبة.
وكان المخلوع بن علي نجم الأنظمة الشمولية بامتياز من حيث تمسكه بأدبيات إيديولوجيا الاستبداد التي تعتبر الإعلام ركنا مكينا من أركانها لا يمكن التساهل فيه في أيحال من الأحوال.. وذلك بحيث أنه منذ توليه السلطة في العام 1987 والوضع الإعلامي بتونس يتسم بالانغلاق التام جراء سيطرة حكومته على جميع منافذ الإعلام متحكمة في أوردته وشرايينه.. بل وفي سبيل ذلك أيضا سخر الرئيس المخلوع كل أجهزة الدولة وإمكاناتها لفرض رقابة محكمة على الإعلام، فكانت مركزية الإشهار، والتحكم في التعيينات، وإسداء الأوامر للصحف، فضلا عن شيوع ظاهرة "المكلفين بمهمة" ممن يعينون داخل الصحف للرقابة عليها، كلها شواهد حية على مدى سيطرة بن علي على الإعلام وتوجيهه لخدمة أجندته القمعية والتسلطية.
وأيضا اعتمد النظام المذكور وسائل مختلفة في سبيل تحقيق طموحه في بسط سيطرة تامة على وسائل الإعلام في بلده تونس، وذلك من خلال إشاعة جو من الخوف العارم في ميدان الإعلام وتجفيف منابعه المالية وتضييق الخناق عليه بشكل لم يسبق له مثيل.. فضلا عن الرقابة على الإنترنت وحجب آلاف المواقع والصفحات الإلكترونية واعتقال وقمع الكثير من الصحفيين والمدونين بالإضافة إلى منع وسائل إعلام دولية(قناة الجزيرة مثلا) من تواجد مكاتب لها على الأراضي التونسية، كل هذا من أجل خدمة أجندة النظام ولضمان بقائه..
لكن وبعد هذا كله من إحكامه القبضة وبيد من حديد على الإعلام، كانت المفاجئة الكبرى هي أن يأتى بن على من قبل الإعلام بقيادة قناة الجزيرة إلى جانب مجموعة من الجنود المجهولين ممثلين في مدونين شجعان وعوا الخطر المحدق بوطنهم فاطلعوا بالمهمة الجسيمة فكانوا عند حسن ظن الشعب بهم.. أداروا المعركة ببسالة تامة وحنكة زائدة وخبرة أبهرت الكل، فكان أن أسقطوا جدار العار الذي ما فتئ الرئيس المخلوع يحيط به نفسه إحاطة السوار بالمعصم قبل أن يأتى من قبله وعلى حين غرة.. وحينها لم ينفع الفهم السقيم..
أجهزت قناة الجزيرة مشكورة مأجورة بإذن الله على نظام المخلوع بن علي.. واكبت الثورة ونقلت الحدث بكل مصداقية وجرأة رغم كل العوائق والعراقيل.. وسخرت كل إمكانياتها المادية والمعنوية لخدمة الانتفاضة الشعبية بتونس جنبا إلى جنب مع العشرات من المدوِّنين الذين تحدوا هم الآخرون كل الإجراءات الأمنية لنقل أخبار ثورة الياسمين إلى العالم... وما هي إلا أياما معدودات حتى ثبت المسمار الأخير في نعش نظام الدكتاتور المخلوع بن علي ليفر هاربا ذليلا ويكون بذلك عبرة وموعظة لمن يتعظ..
حينها برزت معالم نتيجة "إعلامية" جديدة (أقول "إعلامية" لأن نتائج ثورة الياسمين بتونس كثيرة ومتعددة الجوانب) خلصت إليها ثورة تونس المجيدة إلى جانب رسائل أخرى كنت قد ذكرتها في مقام آخر، وتقول النتيجة المذكورة بسقوط إيديولوجيا الاستبداد في ظل خسارتها لركيزتها الأساسية والتي تتمثل في الإعلام، وذلك بعد أن أصبح أصحابها عاجزين عن السيطرة على إعلام تشهد وسائطه الحديثة تطورا غير مسبوق في قدرتها على إدارة اللعبة وتطويعها لصالحها، وهي النتيجة التي على الأنظمة الشمولية في الدول العربية وغيرها من الدول الأخرى أن تعيها وتفهمها جيدا وأن تعمل بمقتضاها بل وأن تعدل عن أفكار شمولية باتت نذر انهيارها بادية للعيان إلى إشاعة جو من الديمقراطية الحقيقية ودعم الحريات العام بما فيها حرية الإعلام، تحقيقا لحق الشعوب في ذلك.
فالرقابة على الإنترنت وحجب المواقع الالكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي و منع التراخيص لوسائل الإعلام المستقلة وتضييق الخناق عليها باعتقال وقمع القيمين عليها كل ذلك لم يعد - فيما يبدوا لي على الأقل - الضامن الأساسي لبقاء هذه الأنظمة المخزية، بل على العكس أصبحت أساليب كهذه مدعاة للتغيير وأصبح الإعلام متحكم بعد أن كان متحكم فيه، وذلك بعد أن أصبحت الهواتف والمدونات و مواقع الفيسبوك وتويتر واليوتيوب وغيرهما تقدم بديلا إعلاميا ناجحا يتمتع بسقف عال من الحرية (حرية يتيحها لنفسه دون منة من أي أحد حاكما كان أو محكوما) ما جعله ينال ثقة كل الناس ويتحول إلى أحد أهم مصادرهم الإخبارية الرئيسية بما ينقله من معانات المظلومين وأناة المحرومين وأصوات المستضعفين، وهو الواقع الإعلامي الذي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك نهاية عقود التكميم والتسلط وبداية عصر الديمقراطيات والحريات العامة والانفتاح الإعلامي.