بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 8 ديسمبر 2011

من السنغال: مشاهدات وطرائف(ح2)


الشيخ داداه ولد آباه
Cheikhdadah85@gmail.com

عرفت السنغال الإسلام في القرن الحادي عشر الميلادي عن طريق التجار الشناقطة وغيرهم، وشيئا فشيئا بدأت الدولة المسلمة تحتضن الدعوة الإسلامية واللغة العربية متحولة بذلك إلى قاطرة مهمة دفعت بمسيرة المد الإسلامي والتعريب في غرب إفريقيا.

وبعد ذلك بقرون قليلة وصلها المد الصوفي، قادما من الشرق عبر موريتانيا، فانتشرت فيها الحركات الصوفية، قبل أن يتوزع زعامات هذه الحركات أعلام سنغاليون كبار شهد لهم بالعلم والتقى والزهد والورع، كما شهد لهم بالتفاني في خدمة الإسلام واللغة العربية، باعتبارها لغة القرءان، ومفتاح فهم الدين الإسلامي.

هذه الزعامات الروحية - أعني رموز هذه الحركات ومنظريها - اعتقد فيها السنغاليون إلى حد أن اعتبروها الجسر الوحيد الذي سيمكنهم من الوصول إلى جنة عرضها السماوات والأرض، لكن هذه الصلة لابد وأن تحاط بقداسة خاصة تمكنها من لعب دورها في التكوين على برامج "تأشيرة العبور" إلى حيث الهدف والغاية، وللتمكين لهذه الدور، وفداء لهذه الزعامات تأتي الهدايا والصدقات كمستحقات مقدسة هي ثمن "الوصول"، وأجرها على الله، فانبرى لجمعها عديدون منهم طبقة "باي فالات"، ومخترعو قصة "الحبل" الآتي ذكرها.

قصة الحبل..
مباشرة عند خروجنا من السنغال باتجاه داكار، وعند أول حي ريفي يقع على نفس الطريق، واجهتنا مجموعة تقارب العشرة، بين ذكور وإناث وقد اعترضت طريقنا، وهي تمد حبلا طويلا على عرض الطريق، من على ارتفاع يصل إلى مترين تقريبا، لإيهامنا بضرورة التوقف.

أول ما شاهدتهم، حسبتهم متظاهرين يحاولون قطع الطريق احتجاجا على إقدام سلطات بلدهم على قطع الماء أو الكهرباء عن حيهم، فهددهم العطش، وهدد معهم مزارعهم ومواشيهم فقرروا الخروج، أو هم يطالبون بتوفير هاذين العنصرين الحيويين، أصلا، بعد أن عانوا العطش والظلام لعقود متتالية، والسبب في تسرب هذا الحسبان عند الوهلة الأولى إلى ذهني، هو كثرة ما سمعت عن مثل ذلك في بلدي العزيز، لكني سرعان ما ثبت لي غير ذلك.

فعندما اقتربنا من الجماعة المذكورة وتهيأ السائق للتوقف، أنزل أفرادها الحبل إلى الأسفل، ثم سحبوه بعد أن تأكدوا من توقف السيارة، التي أحاطوا بها من كل جانب وهم يرددون عبارات "ولوفية" تبين لنا من خلالها أنهم يطلبون هدية الشيخ أحمدو بمبه، "سرينج بمبا" أو "سرينج طوبا" والأخيرة تعني "شيخ طوبا"، فما كان مني إلا أن تعجبت من الأمر ومن الطريقة التي اعتمدوها لتحصيل صدقة أو هدية الشيخ، فقلت في نفسي "سبحان الله.. كل هذا من أجل تحصيل هدية الشيخ أحمدو بمبه، ألا يكفي التجول في الطرقات العامة في المدن الكبيرة والصغيرة، كما يفعل "باي فالات" و"طاليب"...إلخ؟!، أم أن ثمن "الوصول" يحتاج أكثر من ذلك بكثير!".

أمن الطرق..
لم يستحدث السنغاليون جهازا خاصا بأمن الطرق كما حدث معنا في موريتانيا، ولم يستغلوا كذبة "أمن الطرق" لهدر المال العام وتحويله إلى جيوب خاصة، وإنما اكتفوا بتطوير بنيتهم الطرقية وبتزيينها بكل اللافتات واللوحات المرشدة، مع صرامة في إلزام السائقين باحترام قوانين السير، وهو ما تعوده السائقون هناك، فأصبح احترام هذه القوانين هو الأصل، والقاعدة، وغيره ذلك مروق وشذوذ.

فبالرغم من أن العاصمة السنغالية داكار تعاني من أزمة مرورية خانقة استعصت على الحل- حتى الآن على الأقل – إلا أن ذلك لم يشغل بالي لحظة، بالقدر الذي يحصل معي في شوارع نواكشوط، وذلك لروعة النظام المحكم الذي تسير وفقه حركة المرور هناك، فاحترام السائقين لقوانين السير ووقوفهم عند إرشادات وتوجيهات اللافتات المرورية، مع ما يوازي ذلك من صرامة في فرض هذا الواقع من قبل الشرطة المرورية التي لا يصرفها عن ذلك "درهم ولا دينار"، كلها أمور كانت محل إعجابي وتقديري، الشيء الذي صرفني في كثير من الأوقات عن الاشتغال بالتفكير في الاختناقات المرورية في عاصمة توصف بأنها الأكثر اكتظاظا بالسكان.

البنية الطرقية..
تتمتع السنغال بشبكة طرق لا بأس بها، إذا ما قورنت بغيرها في بلدان مجاورة، تتوزعها - حسب بعض المصادر الشفوية والمكتوبة- ثلاثة طرق رئيسية (خطوط طويلة) تصب كلها في طريق واحد - على مسافات مختلفة - قبل المدخل الوحيد العاصمة السنغالية داكار، ويبلغ طول هذه الشبكة الطرقية 14000 كلم، ثلثها فقط تم تعبيده.

ويشكل الاكتظاظ السكاني الكبير الذي تشهده العاصمة السنغالية داكار ــ إضافة إلى احتوائها على مدخل وحيد يقصده كل زائري المدينة من جميع الولايات الداخلية، لكونها جزيرة صغيرة يحفها الماء من كل جانب ــ مصدر إزعاج حقيقي للسكان والزائرين هناك، لما يتسبب فيه ذلك من اختناقات مرورية شديدة تسعى الحكومة السنغالية جاهدة إلى إيجاد حلول جذرية لها.

وذلك من خلال الزيادة الملحوظة، ليس في الشوارع المعبدة فحسب، وإنما في الجسور والطرق السريعة التي لا يزال بعضها قيد الإنشاء، حتى وقت مقامي هناك، وكان آخر طريق يتم تشغيله هو الطريق السريع غير المجاني الذي أطلق قبل أسبوع من تاريخ زيارتي للمدينة، و يدفع مقابل المرور على هذا الطريق السريع مبلغ مالي زهيد يصل إلى 400 فرنك إفريقي بالنسبة للعربات الصغيرة، ويزيد عند الكبيرة.

وهو الطريق الذي سرت عليه مع رفقتي عند دخولنا متجهين إلى مركز المدينة، وذلك لتفادي الاختناق المروري بها، رغم أننا دخلناها بعد التاسعة ليلا، وهو ما يشي بأن الاختناق المروري بها يتواصل إلى ساعات متأخرة من الليل.

كما أني لاحظت جدة تغلب على الشوارع هناك وحتى على بعض الطرق الطويلة نسبيا، فيما يشير إلى دوام الصيانة فيها، وهو شيء مفقود تماما في موريتانيا، حيث إنه منذ أن تم تشييد شارع جمال عبد الناصر، وشارع "العيادة المجمعة" ، وطرق أخرى رئيسية في العاصمة، لم نشاهد أي نوع من أعمال الصيانة لهذه الطرق التي تحولت في بعضها إلى تجمعات للأوساخ والأتربة ومياه الصرف الصحي - كما نشهده غالبا بالقرب من العيادة المجمعة وسط العاصمة نواكشوط - بل و تحولها إلى مكان مناسب تحتله الباعة الصغار وترابط في جنباته عرباتهم التي يستخدمونها لتسويق بضائعهم، فضلا عن كونها طريقا سالكا للعربات التي تجرها الحمير، والتي غالبا ما تذكي جذوة الاختناقات المرورية التي تبلغ ذروتها هذه الأيام في ظل ما نشهده من إصلاحات طرقية "متقطعة" في العاصمة نواكشوط.

هناك 4 تعليقات: